بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
بسم الله الرحمن الرحيم
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)
صدق الله العلي العظيم
مما لا ريب فيه أنه تبارك وتعالى قد خلق الإنسان مفطورا على الإجتماع والتعايش مع الآخرين من صميم وجوده، حيث قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. وبين أن التآلف بين أطياف وجماعات البشر أنه فضل من فضله ومنة من مننه على الإنسان، كما أنه تعالى أمكن الإنسان على التكلم والنطق والبيان في إقامة العلاقات ونسج الإرتباطات بأسلوب المحادثة والبيان لكونها أفضل الطرق وأنجع الأساليب في إيجاد المودة والتواصل مع الناس.
وبهذه النعمة الإلهية العظيمة نجد أن الحوار فيه التكامل والتطور والذي بواسطته انتقلت الثقافات والعلوم بين المجتمعات والأمم المختلفة، ومن الواضح بمكان أنه كلما اتصف الحوار بين أفراد البشر بصبغة الأدب وتجلبب الحديث بالخلق الحسن كلما كانت العلاقات أرقى وأسمى، وهذا ما يدفع بعجلة التطور البشري في كافة مناحي الحياة ومختلف مجالاتها كالثقافة والدين والفكر والإقتصاد والسياسة وغيرها.
ولغة الحوار تشغل مساحة كبيرة في الحياة البشرية، وكل مجال من مجالات الحياة يحتاج إلى الحوار بين المهتمين به، وأن كل ما يكون سببا في التطور في الحياة البشرية ويوصلها إلى كمالها المنشود لا يمكن أن يتحقق إلا بإضفاء لغة الحوار على مفرداته وقوانينه.
ومن أهم ميادين الحوار في حياة الفرد والمجتمع هو الحوار في الثقافة الدينية والمذهبية فبه يتعرف الإنسان على معتقدات الآخرين وطقوسهم، ويتقارب مع نظرائه في وجهات النظر، كما من خلاله يتعرف على نقاط الإلتقاء والإشتراك لتعميقها، ويتعرف على نقاط الإختلاف فيؤطرها وإذا أمكن إلغائها، كل ذلك سعيا للوصول إلى التوحد والتآلف الديني والمذهبي.
ولأهمية موضوع الحوار لابد لنا من الإعتناء بهذه الآداب والإهتمام بإحرازها حتى تكون لغة الحوار ناجحة ومثمرة ومفيدة، حتى نصل إلى مستوى التقارب الفكري والتناغم المبدئي، وتجنب سلبياته التي من شأنها تعقيم الحوار، وتفريق الأمة الإسلامية الواحدة، ونتطرق الآن إلى ذكر بعض آداب الحوار التي يحث ديننا الإسلامي عليها :
الأول : نية الإصلاح في الحوار :
بمعنى أن يكون الدافع من الحوار والتباحث الوصول إلى الصلح والإصلاح، وتوطيد الحق وتثبيت دعائمه، بعيدا عن المراء والظفر، وإخضاع الطرف الآخر والظهور عليه تأسيا بالأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام، وأن لايكون لغائة الإفحام والغلبة، ونجد في أحاديث النبي وأهل بيته نواهي مغلظة عن الحوار بلغة الجدل والتفاخر،فعن الإمام الباقر (ع) قال : من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوء مقعده من النار.
الثاني : إختصاص المتحاورين في موضوع الحوار :
بحيث أنه ولكي يكون الحوار نافعا ومنتجا ينبغي أن يكون المتحاورين على درجة كبيرة ومتميزة في العلم بما يتحاور به، وبخواصه وجزئياته وملازماته، ولا يحق لمن لا يجد في نفسه المستوى المطلوب من المعرفة أن يحاور ويناقش، وإلا فقد الحوار حيويته، وقد ندد القرآن الكريم بأولئك الذين يخوضون الحوار على غير دراية وعلم، فقد قال تعالى (ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم).
الثالث : تجنب الحوار مع المتطرفين :
ينبغي أن يضفي على المتحاورين الإعتدال والإتزان في طرح مواد الحوار، وترك التعصب الفئوي أو المذهبي أو الطائفي أو العاطفي تجاه الفكرة المتحاور فيها، فإن التعصب الأعمى لايزيد الحوار إلا عقما، ولا الإختلاف إلا فرقة، كما أن المحاور لا يقنع بالحق ولو رآه بأم عينه، قال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
الرابع : تناسب موضوع الحوار مع الوقت المحدد :
مما تجدر الإشارة إليه أنه من المهم جدا أن يحدد وقتا معينا يتناسب وموضوع الحوار، كيما يصل المتحاورون إلى نتيجة واضحة، وإلا فتعاطي الحوار المفتوح على سائر الموضوعات الخلافية، يفوت فرصة الوصول إلى نتيجة واضحة الأبعاد والمعالم، وتعليق الكثير من التساؤلات والشبهات من غير نتيجة معروفة.
الخامس : ترك الحوار في المواضيع المعقدة :
وهي من أهم آداب الحوار، لأن الخوض في النقاط المعقدة لا يتمكن المتحاورين فيها من الوصول إلى إجابة مقنعة للجميع، وينبغي الإحتراز عن الإنجرار والدخول فيها أثناء التحاور في سائر الموضوعات، لأن الحوار في النقاط المعقدة والدخول في تفصيلاتها لا يزيد الأمر إلا فرقة واختلاف، ويبتعد عن الهدف الأساسي وهو الألفة والتوحيد.
السادس : أن تكون المشتركات منطلق الحوار :
وهذا ما ينبغي الألتفات إليه ليكون منطلق الحوار إنارة القضايا المشتركة، فهي الرابط الوثيق بين الأطراف، وكعبة فكرهم، ومحط ألفتهم، ومن هنا فإن الله تعالى يأمر نبيه محمد (ص) أن ينطلق في حواره مع أهل الكتاب بالنقاط المشتركة وبالموضوع المتسالم عليه في فكره وفكرهم وهو التوحيد، فيقول تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).
السابع : إستخدام المصطلحات الفاضلة :
من أمهات الأدب في التحاور والتباحث أن يستعمل المتحاورون فيما بينهم المصطلحات الحسنة، والكلمات الفاضلة في إدارة آلية الحوار، التي تظهر الإحترام والتقدير والتكريم مهما حمي وطيس النقاش، كما ينبغي عزل التعبيرات والكلمات التي تظهر الإهانة والتذليل، ولو بأسلوب الكناية والتلميح، فهذا أمير الكلام وفصيح البيان علي بن أبي طالب (ع) لما سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين قال لهم : إني لأكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللهم احقنا دمائنا ودمائهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به.
الثامن : سيادة الحرية على الحوار :
أن سيادة الحرية في ميدان الحوار أمر في غاية الأهمية، إذ من الضروري جدا أن يحاور كل طرف بكامل حريته الفكرية والنفسية والجسدية، فلا يشعر بضغط أو غلق أو تهديد في نفس أو عرض أو مال، كما يلزم حجب كل ما من شأنه قمع الحريات على مستوى التشجيع أو التصويب لأحد الأطراف، لأجل منع الآخر عن إبداء مالديه، بغية هدم المعنويات الطرف الآخر، فإن الحوار في الأدب الإسلامي والعلمي ليس منافسة بين الأفكار بل هو مفاهمة ومفاعلة بينها، لأن المتحاورين لا يقفون موقف التخاصم والتنازع بل يقفون موقف التعاضد والتعاون، والوصول إلى الهدف الأساسي وهو الحق والحقيقة، ليشتركوا جميعا في إحيائها والعمل وفقها.
التاسع : بناء الحوار على المصادر المعتمدة :
من ضروريات الحوار أن يعتمد كل طرف على المصادر المعتمدة عند الطرف الآخر، والتي يعتبرها تمثل دائما أو غالبا ما يقتنع به، ويؤمن بحقيقته، وترك الإعتماد على ما أُلف وكُتب عليه، أو على المسموعات والإشاعات، فإن المنصف والمتحضر من يأخذ فكر الآخرين ومعتقداتهم من مصادرهم لا ممن كُتب عليهم.
العاشر : قبول توجيهات المعتقدات :
من آداب الحوار أن يقبل كل طرف من الآخر ما يذكره من تفسير، أو توجيه حول معتقده أو فكره، إذا كان توجيها موضوعيا نوعيا، وتفسيرا منطقيا، ولا ينبغي رفضه منه، ولا أن يحمل كل واحد منهم الطرف الآخر ما فهمه عنه، لأننا نريد من الحوار تلك التوجيهات المعقولة، والمقبولة للعامة ليزداد رصيد المتفقات المنتجة للتقارب والتوحد.
الحادي عشر : ترك المؤاخذة على لوازم العقيدة :
قد تكون لبعض المعتقدات أو الأفكار التي يؤمن بها الطرف الآخر ملازمات عقلية مرفوضة عنده إلا أنه غير ملتفت إليها، وقد يكون ملتفت إليها إلا أنه لا يؤمن بها، فمن اللازم على الطرف الآخر عدم مؤاخذته عليها، وترك التلاوم بها، حتى لا تتحول إلى مثار جدل واسع بينهم فتلغى فائدة الحوار.
الثاني عشر : ترك مؤاخذة المذهب على الأفكار الشخصية :
قد ينظّر البعض نظريات خاصة وشخصية دفاعا عن مذهبه أو ردا على بعض ما أُشكل عليه، وقد تحمل هذه النظريات أخطاءا معينة، فينبغي عدم تحميلها لمذهبه، مادامت لا تعدو كونها إجتهادات إقتراحية شخصية من ذلك البعض، وينبغي التحاور على ضوء الإطار العام المقبول عند جميع أبناء ذلك المذهب، وما يعتبرونه دينا لهم.
الثالث عشر : عدم طلب التنازل عن المسلّمات عند الطرف الآخر :
من آداب الحوار الهامة أن لا يطلب أحد الأطراف من الآخرين التنازل عما هو مسلّم عندهم من المعتقدات، فإن من شأن ذلك خنق الحوار، بل على كل طرف أن يلقي مالديه من حجج وبراهين، وعلى ذلك الطرف مسؤولية درك ذلك، ليقرر بشأن ذلك المسلّم عنده، سواء بقي على معتقده به أو أقلع عنه.
الرابع عشر : إبتناء الحوار على الأصول الموضوعية :
مما تجدر الإشارة إليه أيضا أنه لا ينبغي جعل الأمور الغير مقومة للمذهب مقوما له في لغة الحوار، بل ينبغي إبتناء الحوار على الأصول الموضوعية عند كل طرف، وما يعتقدون أنه مقوم لمذهبهم، وترك التحاور والجدال على مفردة لا يعتبرها الطرف الاخر مقوما، وأصل من أصول معتقداته، لكي نشغل الحوار في القضايا الهامة بعيدا عن الجزئيات التي لا طائل من الحوار فيها ولا ثمرة منها.
فهذه جملة من الآداب التي ينبغي أن يكون الحوار في ظلها، ويلزم على المتحاورين أخذها بعين الإعتبار، لكي يكون الحوار نافعا وناجعا، يعود للجميع بالخير والصلاح والألفة.